كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)}.
وقرأ عبد الله {إلى أهلِهم} دونَ ياءٍ، بل أضاف الأهل مفردًا. وقرئ {وزَيَّنَ} مبنيًا للفاعل أي: الشيطان أو فِعْلُكم. و{كُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} أي: صِرْتُم. وقيل: على بابها من الإِخبار بكونِهم في الماضي كذا. والبُوْرُ: الهَلاك. وهو يحتمل أن يكونَ هنا مصدرًا أُخْبر به عن الجمع كقوله:
يا رسولَ الإِلهِ إنَّ لِساني ** راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ

ولذلك يَسْتوي فيه المفردُ والمذكرُ وضدُّهما. ويجوز أن يكون جمع بائرِ كحائل وحُوْل في المعتلِّ. وبازِل وبُزْل في الصحيح.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)}.
قوله: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن}: يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً أو موصولةً. والظاهرُ قائمٌ مقامَ العائدِ على كلا التقديرَيْن أي: فإنَّا أَعْتَدْنا لهم.
{سَيَقول الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قال الله مِنْ قَبْلُ فَسَيَقولونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}.
قوله: {يُرِيدُونَ}: يجوز أَنْ يكونَ مستأنفًا، وأَنْ يكونَ حالًا من {المخلَّفون}، وأن يكونَ حالًا من مفعول {ذَرُوْنا}.
قوله: {كلامَ الله} قرأ الأخَوان {كَلِمَ} جمع كِلْمة. والباقون {كلامَ}. وقرأ أبو حيوة {تَحْسِدُوْننا} بكسرِ السين.
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)}.
قوله: {أَوْ يُسْلِمُونَ}: العامَّةُ على رَفْعِه بإثبات النون عطفًا على {تُقاتلونهم} أو على الاستئنافِ أي: أو هم يُسْلِمون. وقرأ أُبَيٌّ وزيد بن علي بحذفِ النون نَصَباه بحذِفها. والنصبُ بإضمارِ {أَنْ} عند جمهور البصريين وب {أو} نفسِها عند الجرميِّ والكسائي، ويكون قد عَطَفَ مصدرًا مؤولًا على مصدر متوهَّم. كأنه قيل: يكنْ قتال أو إسلامٌ. ومثلُه في النصبِ قول امرئ القيس:
فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنما ** نُحاول مُلْكًا أو نموتَ فَنُعْذَرا

وقال أبو البقاء: أو بمعنى: إلاَّ أَنْ، أو حتى.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)}.
قوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ}: منصوبٌ ب {رَضي} و{تحت الشجرة} يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقًا ب {يُبايعونك}، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول. وفي التفسيرِ: أنه عليه السلام كان جالسًا تحتها.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)}.
قوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً}: أي: وآتاكم مغانمَ، أو آتاهم مغانمَ، أو أثابَهم مغانم، أو أثابكم مغانمَ، وإنما قدَّرْتُ الخطابَ والغَيْبَة؛ لأنه يُقرأ {يَأْخُذونها} بالغيبة- وهي قراءة العامَّةِ- {وتَأْخُذونها} بالخطاب، وهي قراءة الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ في رواية سقلاب.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)}.
قوله: {وَلِتَكُونَ}: يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعده، تقديرُه: ولِتَكونَ فَعَلَ ذلك. الثاني: أنَّه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ، تقديرُه: وَعَدَ فعجَّل وكَفَّ لتنتَفِعوا ولتكونَ، أو لتشكروه ولتكونَ. الثالث: أنَّ الواوَ مزيدةٌ، والتعليلُ لِما قبلَه أي: وكَفَّ لتكونَ.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}.
قوله: {وأخرى}: يجوزُ فيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ مرفوعةً بالابتداءِ، و{لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} صفتُها. و{قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} خبرُها. الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ، مقدَّرٌ قبلها أي: وثَمَّ أُخْرى لم تَقْدِروا عليها. الثالث: أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ على شريطةِ التفسيرِ، فيُقَدَّرُ الفعلُ مِنْ معنى المتأخِّر، وهو قد أحاط اللَّهُ بها أي: وقَضى اللَّهُ أخرى. الرابع: أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ لا على شريطةِ التفسير، بل لدلالةِ السِّياقِ أي: ووعَد أخرى، أو وآتاكم أخرى. الخامس: أنْ تكونَ مجرورةً ب (رُبَّ) مقدرةً، وتكونَ الواوُ واوَ (رُبَّ)، ذكره الزمخشريُّ. وفي المجرورِ بعد الواوِ المذكورة خلافٌ مشهورٌ: هو برُبَّ مضمرةً أم بنفسِ الواو. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: ولم تَأْتِ رُبَّ جارَّةً في القرآن على كثرةِ دَوْرِها يعني جارَّةً لفظًا، وإلاَّ فقد قيل: إنها جارَّةٌ تقديرًا هنا وفي قوله: رُبَما على قولنا: إنَّ ما نكرةٌ موصوفة.
قوله: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} يجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا ل {أُخْرى} كما تقدَّم، أو صفةً ثانيةً إذا قيل: بأنَّ {أُخْرى} مبتدأٌ، وخبرُها مضمرٌ أو حال أيضًا.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}.
قوله: {سُنَّةَ الله}: مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ المتقدمة أي: سَنَّ اللَّهُ ذلك سُنَّةَ.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}.
قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ}: قرأ أبو عمروٍ {يَعْلمون} بالياء مِنْ تحتُ، رجوعًا إلى الغَيْبة في {أيديهم} و{عنهم} والباقون بالخطاب، رجوعًا إلى الخطاب في قوله: {أيديكم} و{عنكم}.
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}.
قوله: {والهدي}: العامَّةُ على نصبِه. والمشهورُ أنَّه نسقٌ على الضميرِ المنصوبِ في {صَدُّوْكم}. وقيل: نُصِبَ على المعيَّةِ. وفيه ضَعْفٌ لإِمكان العطفِ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بجرِّه عطفًا على {المسجد الحرام}، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: وعن نَحْرِ الهَدْي. وقرئ برفعِه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ لم يُسَمَّ فاعلُه أي: وصُدَّ الهَدْيُ. والعامة على فتح الهاءِ وسكونِ الدالِ ورُوي عن أبي عمروٍ وعاصم وغيرِهما كسرُ الدالِ وتشديدُ الياء. وحكى ابن خالويه ثلاثَ لغاتٍ: الهَدْيُ وهي الشهيرةُ لغةُ قريشٍ والهَدِيُّ والهَدَى.
قوله: {مَعْكوفًا} حالٌ من الهدي أي: محبوسًا يُقال: عَكَفْتُ الرجلَ عن حاجتِه. وأنكر الفارسيُّ تعديةَ عَكَفَ بنفسِه وأثبتَها ابنُ سيده والأزهريُّ وغيرُهما، وهو ظاهرُ القرآن لبناء اسمِ المفعول منه.
قوله: {أَنْ يَبْلُغَ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه على إسقاطِ الخافضِ أي: عَنْ أَنْ، أو مِنْ أَنْ. وحينئذٍ يجوزُ في هذا الجارِّ المقدرِ أن يتعلَّقَ ب {صَدُّوكم}، وأن يتعلَّقَ بمعكوفًا أي: مَحْبوسًا عن بلوغِ محلِّه أو من بلوغِ مَحِلِّه. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله، وحينئذٍ يجوز أن يكونَ علة للصدِّ، والتقدير: صَدُّوا الهَدْيَ كراهةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه، وأن يكون علةً لمعكوفًا أي: لأجل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه، ويكون الحبسُ من المسلمين. الثالث: أنه بدلٌ من الهَدْي بدلُ اشتمالٍ أي: صَدُّوا بلوغَ الهَدْيِ مَحِلَّه.
قوله: {لم تَعْلَموهم} صفةٌ للصِّنفَيْن وغَلَّب الذكورَ.
قوله: {أَنْ تَطَؤُوْهم} يجوز أَنْ يكونَ بدلًا مِنْ رجال ونساء، وغَلَّبَ الذكورَ كما تقدَّمَ، وأن يكونَ بدلًا مِنْ مفعول {تَعْلَموهم} فالتقدير على الأول: ولولا وَطْءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وَطْأَهم، والخبرُ محذوفٌ تقديره: ولولا رجالٌ ونساء موجودون أو بالحضرة. وأمَّا جوابُ {لولا} ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه محذوفٌ لدلالةِ جواب لو عليه. والثاني: أنه مذكورٌ. وهو {لَعَذَّبْنا}، وجوابُ {لو} هو المحذوفُ، فَحَذَفَ من الأول لدلالةِ الثاني، ومن الثاني لدلالةِ الأول. والثالث: أنَّ {لَعَذَّبْنا} جوابُهما معًا وهو بعيدٌ إن أرادَ حقيقة ذلك. وقال الزمخشري قريبًا مِنْ هذا، فإنَّه قال: ويجوزُ أَنْ يكونَ لو تَزَيَّلوا كالتكرير ل {لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} لمَرْجِعِهما إلى معنىً واحدٍ، ويكون {لَعَذَّبْنا} هو الجوابَ. ومنع الشيخ مرجِعَهما لمعنى واحدٍ قال: لأنَّ ما تعلَّق به الأولُ غيرُ ما تعلَّق به الثاني.
قوله: {فتُصيبَكم} نَسَقٌ على {أَنْ تَطَؤُوهم}. وقرأ ابن أبي عبلةَ وأبو حيوة وابنُ عونٍ {لو تَزايَلوا} على تفاعَلوا.
والضمير في {تَزَيَّلوا} يجوز أَنْ يعودَ على المؤمنين فقط، أو على الكافرين أو على الفريقين أي: لو تَمَيَّز هؤلاء مِنْ هؤلاء لَعَذَّبْنا.
والوَطْءُ هنا: عبارةٌ عن القتلِ والدَّوْسِ. قال عليه السلام: «اللَّهم اشدُدْ وَطْأتك على مُضَرَ»، وأنشدوا:
ووَطِئْتَنا وَطْئًا على حَنَق ** وَطْءَ المقيَّدِ ثابِتَ الهَرْمِ

والمَعَرَّة: الإِثم.
قوله: {بغيرِ عِلْمٍ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {مَعَرَّةٍ}، أو أَنْ يكونَ حالًا مِنْ مفعول {تُصيبكم}. وقال أبو البقاء: من الضمير المجرورِ يعني في منهم ولا يَظْهر معناه، أو أن يتعلَّقَ ب {يُصيبكم}، أو أن يتعلَّقَ بـ{تَطَؤُوْهم}.
قوله: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ} متعلقٌ بمقدرٍ أي: كان انتفاءُ التسليطِ على أهلِ مكةَ وانتفاءُ العذابِ ليُدْخِلَ اللَّهُ.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأنْزل الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}.
قوله: {إِذْ جَعَلَ}: العاملُ في الظرفِ: إما {لَعَذَّبْنا} أو {صَدُّوكم} أو اذكُرْ، فيكونُ مفعولًا به.
قوله: {في قلوبهم} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب جَعَلَ على أنها بمعنى أَلْقى فتتعدَّى لواحدٍ أي: إذ ألقى الكافرونَ في قلوبِهم الحميةَ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على أنها بمعنى صَيَّرَ.
قوله: {حَمِيَّةَ الجاهليةِ} بدلٌ مِنْ {الحميةَ} قبلها. والحميَّةُ: الأنَفَةُ من الشيءِ. وأنشد للمتلمِّس:
ألا إنني منهمْ وعِرْضي عِرْضُهُمْ ** كذا الرأسُ يَحْمي أنفَه أَنْ يُهَشَّما

وهي المَنْعُ، ووزنُها فعيلة، وهي مصدرٌ يقال: حَمَيْتُ عن كذا حَمِيَّةً.
قوله: {وكانوا أحَقَّ} الضميرُ يجوزُ أَنْ يعودَ على المؤمنين، وهو الظاهر أي: أحقَّ بكلمةِ التقوى من الكفار. وقيل: يعودُ على الكفار أي: كانت قُرَيْشٌ أَحَقَّ بها لولا حِرْمانُهم.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}.
قوله: {لَّقَدْ صَدَقَ}: صَدَقَ يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ يُقال: صَدَقْتُكَ في كذا. وقد يُحْذَفُ كهذه الآيةِ.
قوله: {بالحَقِّ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يتعلَّق ب {صدق}. الثاني: أَنْ يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أي: صِدْقًا مُلْتَبسًا بالحق. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {الرؤيا} أي: مُلْتبسةً بالحق. الرابع: أنَّه قسمٌ وجوابُه {لَتَدْخُلُنَّ} فعلى هذا يُوقف على {الرؤيا} ويُبْتَدَأُ بما بعدَها.
قوله: {لَتَدْخُلُنَّ} جوابُ قسمٍ مضمرٍ، أو لقوله: {بالحق} على ذلك القول. وقال أبو البقاء: و{لَتَدْخُلُنَّ} تفسيرٌ للرؤيا أو مستأنَفٌ أي: والله {لَتَدْخُلُنَّ}، فجعل كونَه جوابَ قسمٍ قسيمًا لكونِه تفسيرًا للرؤيا. وهذا لا يَصِحُّ البتةَ، وهو أَنْ يكونَ تفسيرًا للرؤيا غيرَ جوابٍ لقسم، إلاَّ أَنْ يريدَ أنه جوابُ قسمٍ، لكنه يجوزُ أَنْ يكونَ هو مع القسم تفسيرًا، وأن يكونَ مستأنفًا غيرَ تفسيرٍ وهو بعيدٌ من عبارته.
قوله: {آمِنين} حالٌ مِنْ فاعل {لَتَدْخُلُنَّ} وكذا {مُحَلِّقين ومُقَصِّرِين}، ويجوزُ أَنْ يكونَ {مُحَلِّقين} حالًا مِنْ {آمِنين} فتكونَ متداخلةً.
قوله: {لا تَخافون} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفًا، وأنْ يكونَ حالًا ثالثةً، وأَنْ يكونَ حالًا: إمَّا مِنْ فاعل {لَتَدْخُلُنَّ} أو مِنْ ضميرِ {آمنين} أو {مُحَلِّقين} أو {مقصِّرين}. فإن كانَتْ حالًا مِنْ {آمِنين} أو حالًا من فاعل {لَتَدْخُلُنَّ} فهي حالٌ للتوكيد و{آمنين} حالٌ مقاربةٌ، وما بعدها حالٌ مقدرةٌ إلاَّ قوله: {لا تَخافون} إذا جُعِل حالًا فإنها مقارنةٌ أيضًا.
قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله}: يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، لأنه لَمَّا تقدَّمَ: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} دَلَّ على ذلك المقدَّرِ أي: هو أي: الرسولُ بالهدى محمدٌ، و{رسولُ} بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ، وأن يكونَ مبتدًا أو خبرًا، وأن يكونَ مبتدًا و{رسولُ اللَّهِ} على ما تقدَّم من البدلِ والبيانِ والنعتِ. و{الذين معه} عطفٌ على {محمدٌ} والخبرُ عنهم قوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار}. وابن عامر في روايةٍ {رسولَ الله} بالنصبِ على الاختصاصِ، وهي تؤيِّدُ كونَه تابعًا لا خبرًا حالةَ الرفعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {والذين} على هذا الوجه مجرورًا عطفًا على الجلالة أي: ورسولُ الذين آمنوا معه؛ لأنه لَمَّا أُرْسِل إليهم أُضيف إليهم فهو رسولُ اللَّهِ بمعنى: أنَّ اللَّهَ أرسله، ورسولُ أمتِه بمعنى: أنه مُرْسَلٌ إليهم، ويكون {أشدَّاءُ} حينئذٍ خبرَ مبتدأ مضمر أي: هم أشدَّاء. ويجوزُ أَنْ يكونَ تَمَّ الكلام على {رسولُ الله} و{الذين معه} مبتدأٌ و{أشدَّاءُ} خبره.
وقرأ الحسن {أشداءَ}، {رحماءَ} بالنصبِ: إمَّا على المدحِ، وإمَّا على الحال من الضميرِ المستكنِّ في {معه} لوقوعِه صلةً، والخبرُ حينئذٍ عن المبتدأ.
قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} حالان؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ، وكذلك {يَبْتَغُون} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفًا، وإذا كانَتْ حالًا فيجوزُ أَنْ تكونَ حالًا ثالثةً مِنْ مفعول {تَراهم} وأن تكونَ من الضمير المستترِ في {رُكَّعًا سجدًا}. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ {سُجَّدًا} حالًا مِنَ الضمير في {رُكَّعًا} حالًا مقدرة. فعلى هذا يكونُ {يَبْتَغون} حالًا من الضميرِ في {سُجَّدًا} فتكونُ حالًا مِنْ حال، وتلك الحالُ الأولى حالٌ مِنْ حال أخرى.
وقرأ ابن يعمر {أَشِدَّا} بالقصرِ، والقصرُ مِنْ ضرائر الأشعار كقوله:
لا بدَّ مِنْ صَنْعا وإنْ طالَ السَّفرْ

فلذلك كانَتْ شاذَّةً. قال الشيخ: وقرأ عمرو بن عبيد {ورُضوانا} بضم الراء. قلت: هذه قراءة متواترةٌ قرأها عاصمٌ في روايةِ أبي بكرٍ عنه قَدَّمْتها في سورة آل عمران، واستثنيتُ له حرفًا واحدًا وهو ثاني المائدة.
وقرئ {سِيْمِياؤهم} بياء بعد الميمِ والمدِّ، وهي لغةٌ فصيحةٌ وأُنْشِد:
غلامٌ رَماه اللَّهُ بالحُسْن يافعًا ** له سِيْمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ

وتقدَّم الكلامُ عليها وعلى اشتقاقِها في آخر البقرة. و{في وجوههِم} خبرُ {سِيماهم}.
قوله: {مِّنْ أَثَرِ السجود} حال من الضمير المستتر في الجارِّ، وهو {في وجوههم}.
والعامَّةُ {مِنْ أَثَرِ} بفتحتين، وابن هرمز بكسرٍ وسكون، وقتادة {مِنْ آثارَ} جمعًا.
قوله: {ذلك مَثَلُهم} {ذلك} إشارةٌ إلى ما تقدَّم من وَصْفِهم بكونهم أَشِدَّاءَ رُحَماءَ لهم سِيما في وجوههم، وهو مبتدأ خبرُه {مَثَلُهم} و{في التوراة} حالٌ مِنْ مَثَلُهم والعاملُ معنى الإِشارة.
قوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ وخبرُه {كزَرْعٍ} فيُوقَفُ على قوله: {في التوراة} فهما مَثَلان. وإليه ذهب ابن عباس. والثاني: أنه معطوفٌ على {مَثَلُهم} الأولِ، فيكونُ مَثَلًا واحدًا في الكتابَيْن، ويُوْقَفُ حينئذٍ على {الإِنجيل} وإليه نحا مجاهدٌ والفراء، ويكون قوله على هذا: {كزَرْع} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: مَثَلُهم كزَرْعٍ، فَسَّر بها المثل المذكور. الثاني: أنه حالٌ من الضمير في {مَثَلُهم} أي: مُماثِلين زَرْعًا هذه صفتُه. الثالث: أنها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: تمثيلًا كزرع، ذكره أبو البقاء. وليس بذاك. وقال الزمخشريُّ: ويجوزُ أَنْ يكونَ {ذلك} إشارةً مُبْهَمَةً أُوْضِحَتْ بقوله: {كَزَرْع} كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ}.
قوله: {أَخْرَجَ شَطْأَه} صفةٌ لزرع. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتح الطاء، والباقون بإسكانها، وهما لغتان. وفي الحرف لغاتٌ أخرى قرئ بها في الشاذِّ: فقرأ أبو حيوةَ {شَطاءَه} بالمدِّ، وزيد بن علي {شَطاه} بألفٍ صريحةٍ بعد الطاءِ، فاحتملَتْ أَنْ تكونَ بدلًا من الهمزةِ بعد نقلِ حركتِها إلى الساكنِ قبلَها على لغةِ مَنْ يقول: المَراةُ والكَماةُ بعد النقلِ، وهو مقيسٌ عند الكوفيين، واحتملَ أَنْ يكونَ مقصورًا من الممدود. وأبو جعفر ونافعٌ في روايةٍ {شَطَه} بالنقل والحَذْفِ وهو القياسُ. والجحدري {شَطْوَه} أبدل الهمزة واوًا، إذ تكونُ لغةً مستقلةً. وهذه كلُّها لغاتٌ في فراخِ الزَّرْع. يقال: شَطَأَ الزَّرْعُ وأَشْطَأ أي: أخرجَ فِراخَه. وهل يختصُّ ذلك بالحِنْطة فقط، أو بها وبالشعيرِ فقط، أو لا يختصُّ؟ خلاف مشهور قال:
أَخْرج الشَّطْءَ على وجهِ الثَّرى ** ومنَ الأشجارِ أفنانَ الثمرْ

قوله: {فآزَرَه} العامَّةُ على المدِّ وهو على أَفْعَل. وغَلَّطوا مَنْ قال: إنه فاعَلَ كمجاهدٍ وغيرِه بأنَّه لم يُسْمَعْ في مضارِعه يُؤَازِرُ بل يُؤْزِرُ. وقرأ ابن ذكوان {فَأَزَره} مقصورًا جعله ثلاثيًا. وقرئ {فأَزَّرَه} بالتشديدِ والمعنى في الكلِّ: قَوَّاه.
وقيل: ساواه. وأُنْشد:
بمَحْنِيَةٍ قد آزَرَ الضالُّ نَبْتَها ** مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِميْنَ وخُيَّبِ

قوله: {على سُوْقِه} متعلِّقٌ ب {اسْتوى}، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالًا أي: كائنًا على سُوْقِه أي: قائمًا عليها. وقد تقدَّم في النمل أن قنبلًا يقرأ {سُؤْقِه} بالهمزةِ الساكنة كقوله:
أحَبُّ المُؤْقِدين إليَّ موسى

وبهمزةٍ مضمومةٍ بعدها واوٌ كقُرُوْح، وتوجيهُ ذلك. والسُّوْق: جمع ساق.
قوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} حالٌ أي: مُعْجِبًا، وهنا تَمَّ المَثَلُ.
قوله: {ليَغيظَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلِّقٌ ب {وَعَدَ}؛ لأنَّ الكفارَ إذا سَمِعوا بعِزِّ المؤمنين في الدنيا وما أُعِدَّ لهم في الآخرة غاظَهم ذلك. الثاني: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ دَلَّ عليه تشبيهُهم بالزَّرْعِ في نَمائِهم وتَقْويتِهم. قاله الزمخشري أي: شَبَّههم اللَّهُ بذلك ليَغيظَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما دَلَّ عليه قوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار} إلى آخره أي: جعلهم بهذه الصفاتِ ليَغيظَ.
قوله: {مِنْهم} (مِنْ) هذه للبيانِ لا للتبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم كذلك فهي كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]. وقال الطبري: منهم أي: من الشَّطْء الذي أخرجه الزرعُ، وهم الداخلون في الإِسلامِ إلى يومِ القيامة، فأعاد الضميرَ على معنى الشَّطْءِ، لا على لفظِه، وهو معنى حسنٌ. اهـ.